السؤال:
أنا شاب أعمل في إحدى القطاعات الحكومية، وكذلك متعاون مع إحدى المؤسسات الخيرية، مشكلتي أني أحب العمل كثيرا إلى درجة أنني أضيّع بعض الالتزامات والواجبات الدينية والاجتماعية لإنجاز ذلك العمل بل أظل أفكر فيه طيلة الوقت.
هل هناك مشكلة في هذا الموضوع؟ وشكرًا.
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فإن من المبهج للنفس وجود أمثالك من الشباب الذين يحبون العمل ويقبلون عليه، لاسيما في وقت نرى فيه بعض الشباب لا يأبهون بالعمل كثيرا، ويحبون الراحة والكسل، وكأنما هم يريدون السماء أن تمطر عليهم ذهبا وفضة، فإذا ما اجتهد أحدهم وعمل مكان ما ظهرت منه بوادر الإهمال من غياب وضعف أداء.
كما أحيي فيك حرصك على العمل الخيري والتعاوني، وأشكر فيك همتك.
وكونك تحب العمل كثيرا فإن هذه صفة تضاف إلى إيجابياتك، وليست مشكلة بحد ذاتها، لكن المشكلة الإخلال بترتيب الأولويات على الوجه الصحيح، فإذا كان هذا أمرا واجبا فهناك ما هو أوجب منه.
ولعل وقوعك في شيء من هذا يرجع إلى أحد سببين: إما استغراقك في العمل إلى الحد الذي تنسى فيه الواجبات الأخرى. وإما وجود خلل في ترتيب الأولويات بسبب غياب التعرف على أوجب الواجبين، لاسيما أن الواجبات أكثر من الأوقات.
أما السبب الأول: وهو الاستغراق في العمل والاندماج معه إلى حد نسيان الواجبات الأخرى، فعلاجه يكون بتنظيم الوقت وترتيبه والتخطيط السليم للوقت، والاستفادة من المفكرات والمذكرات الموجودة في السوق، سواء الورقية أو التقنية بالحاسب أو جهاز الجوال، فتقوم بوضع خطة أو جدول لنفسك، تدخل ضمنه جميع واجباتك حتى الاعتيادية، لأنك بوضعك الحالي تنسى واجبات أهم كالدينية مثلا، فلا يصح أن تنهمك في عملك حتى تنشغل عن الصلاة، وقد يكون من المناسب وضع مذكِّر للصلوات في جوالك أو حاسبك، وهو بحمد الله متوفر.
والواجبات كثيرة تتصدرها الواجبات الدينية، وهناك واجبات أخرى كالنفس والأهل لا ينبغي الإخلال بها، بل يوضع لها وقت في برنامجك اليومي كما سيأتي في السبب الثاني- إن شاء الله- ليحتوي الجدول بعد ذلك على جميع الواجبات، ويكون لكل واحد منها وقته المناسب له، ولا يزاحمه واجب آخر إلا عند الضرورات، ولكن لا يكثر من المقاطعات والمزاحمات.
وأما السبب الثاني: وهو غياب الترتيب الصحيح للأولويات، فهذا قد يختلف في تقديره الأشخاص، بل قد تختلف الأولويات بين الأشخاص في الحادثة الواحدة، لظروف كل واحد منهم، وإن جلسة هادئة مع نفسك وبيدك ورقة وقلم بعيدا عن الضوضاء تمكنك من تنظيم أولوياتك، بل ربما أظهرت لك خللا في ترتيبك السابق، وليكن ترتيبك وفق الطريقة المعروفة: مهم وعاجل مهم وغير عاجل غير مهم وعاجل غير مهم وغير عاجل فترتيبها وفق الترتيب السابق، ويبقى النظر في الثانية والثالثة، فإذا أمكن تقديم الثالثة على الثانية ولم يكن ذلك سببا في ترك أو ضعف الثانية فلا بأس بتقديمه.
وإن جهودك المباركة- أخي الفاضل- في العمل الخيري ينبغي ألا تنسيك واجبات أخرى، فإن الذي يعمل وينغمس في العمل مثلك إذا لم يرتب وقته يبدأ في خلق المعاذير لنفسه، ويبرر تركه لما هو أهم، وقد يندم ولات ساعة مندم، وفي هذا أمثلة وقصص لأشخاص أهملوا مهمات وواجبات كبعض الأمراض في النفس أو تطوير النفس أو الأهل والأولاد ثم ندموا، وليس هنا مجال عرضها.
ومما جاء في السنة في ترتيب الأولويات ما ورد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه في صحيح البخاري حين جاء يزور أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، قال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك ليس له حاجة في الدنيا، فلما جاء أبو الدرداء رحب به وقرب إليه طعاما، فقال له سلمان: اطعم، فقال: إني صائم، قال: أقسمت عليك إلا ما طعمت، ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه، وبات عنده، فلما كان من الليل قام أبو الدرداء فحبسه سلمان، ثم قال: يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، صم وأفطر، وقم ونم، وائت أهلك، فلما كان عند الصبح قال قم الآن، فقاما وصليا، ثم خرجا إلى الصلاة فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليه أبو الدرداء فأخبره بما قال له سلمان، فقال له: رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما قال سلمان له، وفي لفظ: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا الدرداء إن لجسدك عليك حقا مثل ما قال لك سلمان».
ومثل هذا القول جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رد تبتل عثمان بن مظعون، وكذلك قاله لعبدالله بن عمرو رضي الله عنهم أجمعين حين أحب الانقطاع للعبادة، فإذا كان الاستغراق في العبادة مذموما وهي أولى الأولويات، فما بالك بما دونها.
وإن حب النفس لشيء لا يعني أن يكون مسيطرا على حياته، بل يرتب أولوياته حسب ما سبق.
ومما يلحظ على بعض العاملين في المجال الخيري نسيان تطوير ذواتهم، والانهماك في العمل الإداري، وهذا خلل ينبغي أن يتداركوه، وكذلك ينسى بعضهم أهله وأولاده، فلا يراهم إلا حين يأوي إلى فراشه، ولا يجعل لهم أوقاتا يربيهم فيها، أو حتى يجعل لهم وقتا للمتعة والفسحة، فإن النفس تمل وتكل، وتحب محاكاة الآخرين، والله سبحانه وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وفيه إشارة وتنبيه إلى ترتيب الأولويات في حياة الفرد، فلا ينبغي للداعية الحصيف أن ينشغل بدعوة الآخرين وبيته قد أهمله، ولما ذكر عبدالله بن مسعود رضي الله عنه حديث النامصة، قالت له امرأة: إن أهلك يفعلونه، فأجابها بثقة المربي: اذهبي فانظري، وهكذا ينبغي للداعية أن يكون شعاره دائما: (اذهبي فانظري).
الكاتب: فهد السيف.
المصدر: موقع المسلم.